April 29, 2012

أنـا حُــســـامُ جـئــتُ





اتخذتُ البارحة قراراً ربما يكون إلى الفشل أقرب، وربما ما كان ليدفعني له سوى اقتناعي بكراهية الفرص الضائعة: ماذا يحدثُ لو لم أقم بكذا وكذا ؟ هذا التخيل القاتل يدفعني إلى الاستسلام لمشاعري، والانطلاق بعيداً عن البوصلة العقلية التي تشدني إلى التشتت.

لا يميز معظم الناس بين "الشخصية" و "السلوك". تصادفني أسئلة تتعجب من اختلاف سلوكياتي من موقف لآخر، من شخص لآخر، يحتارون بين "حسام" اندفاعي قليل الذوق حاد الطباع، و"حسام" آخر ودود متفهم ويجيد الاستماع إلى البشر واحتواء الآخرين. وربما لا يعرفون بوجود "حسام" ثالث ورابع. أستعجب من تجاهلهم لأن كل هذه "الأحسمة" هي ((أنا)) في النهاية، فأنا في العمل ذلك الشكاك الحذر ذو التعامل الرسمي، ومع الشخصيات التي لا أعرفها يُفرض نوعٌ من الاحترام البارد، أما مع عائلتي يظهر حسام أكثر هدوءاً وقدرة على السيطرة ويمكن الاعتماد به، ومع الأصدقاء أترك نفسي لعنفوانها.

في البداية، كنت أؤمن بنظرية الأقنعة، أن كل موقف يفرض قناعه الخاص، لكنني مع الوقت اكتشفت خيبة التفكير: أنت هو الذي تقدمّه للآخرين، لا يمتلك أحد بلورة سحرية كي يكتشف طبقات نفسك إلا لو سمحتَ له بذلك، أنت سلوكك، ليس شخصيتك.

ثم ازداد الأمر تعقيداً، فالسلوكيات المتكررة تترسب إلى الشخصية، لتظهر نمطاً ممتداً في السلوك الاجتماعي/ الظاهري وفي التفاعلات العقلية/ النفسية: قد أستعير صفات العنفوان الصداقيّ كي أحل مشكلة عمل، أو يظهر "حسام" العائلي للتعامل مع الغرباء، هكذا تذوب الحدود رويداً، تقلب التربة نفسها، وتترك نفسك لا "تفكر" في التصرف، بل تستدعي نماذج مسبقة من مخيلتك تصلح للتعامل مع الموقف الجديد، وتبدأ كل دائرة تتعجب من ظهور صفات أخرى من شخصيتك لم ترَها مسبقاً لأنها خارج إطار التعامل.

هذه الفترة تمثل ذروة التغيير، أنا مستعد للتخلي عن العلاقات التي لم "تتكيف" مع حسام الجديد، والسماح بظهور علاقات أخرى أكثر تكيفاً مع المستجدات الجديدة، هذه الآلية (الانتخابات الطبيعي) العاقلة العمياء تقوم بدورها على ما يرام: لم أعد أهتم بإرضاء/ تغيير سلوكياتي من أجل الآخرين، بل بدأت أتوقع من الآخرين أن يتقبلوني على علّاتي، مع وعد أن حسام لا يحمل في طياته شراً محضاً، ربما فيه من الفائدة ما يستحق الاقتراب منه.

بدأت شخصيتي تحدد أهدافها؛ ما الذي أريده في الحياة؟ أريد الاستقرار، أن أتودد إلى امرأة تخلبني ابتسامتها، أن أتخيل حياتي معها خلال السنوات القادمة، أن أحب وأتزوج وأكوّن أسرة أرعى مصالحها واهتماماتها؛ أجد الرعاية في مقابل مجموعة الميزات التي أقدمها. حياتي توقفت عن أن تقف على شخص بعينه، وعلى آراء الآخرين، وعلى العمل، وعلى مصالح متضاربة لا تمثلني في الحقيقة. أريد أن أعيش في سلام بعيداً عن الضجيج/ الثورة/ الغضب/ والمتناثرات الصغيرة التي تستهلكني.

أنا حسامُ جئتُ، وعلى ما يبدو لا أنوي الرحيل قريباً.

August 25, 2011

ثم قـسـت قلوبـكـم



منذ عدة سنوات، كنت في كافتيريا محطة رمسيس، أرتشف قهوتي وأرتقب وصول قطار لم أعلم آنذاك أنه سيتأخر علي لمدة ساعتين وثلاث وعشرين دقيقة. لفت نظري كائن نصفه الأسفل مبتور تماماً، يعتمد على يديه في تحريك زلاجة تحمل بقايا جسده، وعلى صوت الهمهمات التي يصدرها وعينيه الزائغتين وشعره المتساقط وثيابه الرثة التي تكشف عريه، كان يصعب عليّ تخيل أن يطلق على هذا الكائن لقب إنسان، أو أن ينتمي إلى نفس الرتبة الإحيائية التي ننتمي لها.


كانت هناك مجموعة من الأطفال التي رغبت في التسلي على هذا الكائن، بدأوا بركله على مؤخرته، كان يجاهد لتحريك زحافته التي يجرها بيديه نحوهم، بينما يطلق صيحات تكشف خرسه أو جنونه، أخذ الأطفال يهربون منه، قبل أن يندفع فتى من ورائه ويعقد حبلاً غليظاً حول عنقه، ويجذبه ناحيته ليقع الكائن على ظهره بعيداً عن زحافته، ثم بدأت حفلة جماعية من الأطفال تضمنت الركل والضرب، كان حظ أولئك الصغار وجود قطار على الرصيف مما شغل بال الناس عن رفاهية البحث عن حس أخلاقي يوقف هذه المأساة، ولما انتبه أحد العاملين بالمحطة زجر الأطفال عن فعلتهم، وأسند الكائن إلى الجدار الذي ظل لفترة يصرخ ويشوح بذراعيه، قبل أن يستغرق في غطيط عميق وطبقة من الزبد الأبيض تتشكل على جانبي شفتيه، منحته منظراً طفولياً بشكل غريب.


لا يزال هذا الموقف في ذهني، لأنه من أكثر المواقف التي تدنيت فيها عن إنسانيتي. كنت فاقداً الرغبة في مساعدة الرجل العاجز، راقبت الموقف من أوله لكنني تجاهلتُ مساعدته، لأنني لم أهتم بمعاناة الرجل، بل ربما أكون قد استمتعت وأنا أدخن سيجارتي وأرقب هذا المشهد الذي بدا لي وقتها هزلياً كفقرة سيرك مضحكة.


كلما مرت بي آية : " ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِّن بعد ذلك فهيَ كالحجارةِ أو أشدّ قسوةً " أصابتني القشعريرة واستشعرتُ أبرز مخاوفي تجاه نفسي؛ قسوة القلب أو تعفنه.


في البدء تكون اللامبالاة، هناك لحظة ما أقرر فيها التوقف عن الاهتمام بالآخرين، أو عن تخيل نفسي مكانهم، أو البحث عن حلول منطقية لعشوائيات حيواتهم المعقدة. مع استمرار اللامبالاة تسقط أقنعة الادعاء والتصنع والرياء، يبدأ النفور في لعب دور حاسم في عزلتك عن كل من تعرفهم، قد يصل بك الأمر إلى أن يكون مجرد نظرك إلى وجوههم متعباً لك، تكره الوجوه وتمل الضجيج وتمقت الزحام، تُسقط الذكريات من وعائك، وتبدأ في تكوين قشرة صلبة تعزلك عن محيط التأثير الخارجي.


لن يبدأ تعفن القلب إلا من اعتقادك الساذج بأن آلامك هي الأقوى بين آلام الناس، وأن لا أحد يشعر بألمك إلاك، وأن الأسلم لكيلا تتألم ثانية أن تتوقف عن التعاطي مع البشر، لن يبدأ التعفن إلا من الكراهية: كراهيتك لنفسك ولألمك ولمن سبّب لك الألم، وتدريجياً ستفقد قدرتك على التواصل مع الجانب الإنساني، وستبدو نظرة خاوية على عينيك يلاحظها كل من يعرفك، ويخبرك بمدى قلقه عليك، بينما تهز رأسك وتزداد اغتراباً.


هذه الأيام بدأت نفس الأعراض تعود تقريباً، كان لزاماً عليّ لتجنب الألم ألا أبالي، لم أستطع المحافظة على رفاهية الحس الإنساني والتعامل مع جرح مفتوح ينز دماً كلما لمسه أحد، أحاول تصنع الاهتمام، أحاول التغلب على النفور بالانخراط في رؤية الآخرين والاستماع إليهم، أحاول أن أسكت صوت اللامبالاة داخلي، لكنني أعلم جيداً أنني قد أضطر إلى هذا الميكانيزم الدفاعي، لأنني مللتُ الألم، ومللتُ الاهتمام، ومللتُ الصد والممانعة والنكران والهجران وسوء المنقلب وزوال المشاعر، مللتُ لعبة التخمين، مللتُ البحث عن ردود أفعال ترضي من أمامي لا ترضيني، مللتُ من ترقب إشارات تطمئنني تعقبها أفعال/ كلمات تقتلني، ثم أبتسم كأن شيئاً لم يكن وأكمل حديثي العابر الزائل.


اللامبالاة أفضل بكثير، اللامبالاة ليست لعبة البحث عن الاحتمالات بل تجاهلها تماماً، في اللامبالاة أنت تنجح في تمثيل دور المهتم دون أن تكون مهتماً في الحقيقة، وبالتالي فعندما لا يلقى اهتمامك اهتماماً لن تشعر سوى بفشل دورك التمثيلي، لن تفكر في مشاعرك لأنك لن تنتظر من أحد أن يربت عليها، لن تبحث عن سعادة بدأت تدرك جيداً أنك لن تنالها، أو ربما ستنالها لكن لامبالاتك ستفقدك طعمها. اللامبالاة ملح يفقد كل الأشياء طعمها، لن تشعر بنجاح أو خسارة أو فشل أو ألم أو نشوة أو لذة أو خوف أو مرض، فقط عليك ألا تقترب من النفور والتعفن لكيلا تخسر كل شيء، وأن تنتظر الآذان لتشعل سيجارتك، وترخي جسدك وتنظر إلى السقف متأملاً اللاشيء، راغباً في اللاشيء، عاجزاً عن اللاشيء، متماهياً مع اللاشيء، فأنت أصلاً ولامبالاتك: لا شيء.

August 10, 2011

Le Cirque De La Solitude - Emil Cioran





لا يستطيعُ أحدٌ أن يحرسَ عزلته إذا لم يعرف كيف يكون بغيضاً

*

كلما ازدادت لامبالاتي بالبشر تضاعفت قدرتهم على التأثير فيّ، ومهما احتقرتهم فإني لا أستطيع الاقتراب منهم إلا متلعثماً.

*

لا أحيا إلا لأن في وسعي الموت متى شئت. لولا فكرة الانتحار لقتلتُ نفسي منذ البداية

*

نكف عن أن نكون شباباً لحظةَ نكف عن اختيار أعدائنا، راضين بأولئك الذين نجدهم في متناول اليد.

*

بدون الله كل شيء عدم. والله؟ العدم الأقصى

*

تخلصت من الله بسبب حاجتي إلى التأمل، تخلصتُ من آخر المزعجين

*

الرغبة في الموت كانت همي الأوحد والوحيد. في سبيله ضحيتُ بكل شيء، حتى بالموت

*

لماذا ننسحب ونغادر اللعبة، ما دام في وسعنا أن نخيب ظن المزيد من الكائنات؟

*

كلما أحاطت بنا المصائب صرنا أكثر تفاهة: مشيتنا نفسها تتغير لذلك. المصائب تدفعنا إلى الاستعراض. تخنق فيها الشخص لتوقظ الشخصية. لولا السفاهة التي جعلتني أعتقد بأني أكثر البشر تعاسة لانهرتُ منذ زمن طويل

*

كلما وقعتُ ضحية العواطف المحمومة أو نوبات الإيمان أو لحظات عدم التسامح، أتمنى عندئذ لو أنزل طواعية إلى الشارع لأحارب وأموت متحزباً للضبابي، مستميتاً في الدفاع عن الـ(ربما).

*

كتمان الألم، إنزاله إلى رتبة النشوة - تلك هي حيلة الاستبطان، لعبة اللطفاء، ديبلوماسية الأنين.

*

رائحة المخلوق تضعنا في أثر ألوهية نتنة.

*

لماذا التخلص من الله للوقوع في الذات؟ لماذا تبادل الجثث هذا؟

*

لا يمكننا تجنب عيوب البشر دون أن نهرب في الوقت نفسه من فضائلهم. هكذا نفلس بواسطة الحكمة

*

الأمل تكذيب للمستقبل

*

لو كان للتاريخ غاية، لكان مصيرنا يثير الرثاء، نحن الذين لم ننجز شيئاً. أما في هذا اللامعنى الشامل، فقد بات في وسعنا نحن الحقراء الصعاليك الذين لا جدوى لهم، أن نرفع رؤوسنا فخورين بكوننا كنا على حق.

*

ما من تبعية وإن كانت إلى الرغبة في الموت، إلا وهي تسقط قناع وفائنا لخديعة الأنا

*

لا حركة ولا نجاح دون اهتمام كلي بالقضايا الثانوية.
الحياة مهنة حشرات.

*

العناد الذي بذلته في مقاومة سحر الانتحار، كان يكفيني بسهولة لأحقق خلاصي بالفناء في الله.

*

حين نفقد كل دافع، تسودّ الدنيا في أعيننا، وتصبح تلك السوداوية الحافز الأخير. نصير عاجزين عن الاستغناء عنها فنتبعها في العرس كما في الجنازة. ويبلغ خوفنا من أن نُحرم منها حدّ أن تصبح عبارة "امنحونا خبزنا اليومي من الكآبة" النغمة التي تصاحب كل انتظاراتنا وتوسلاتنا

*

مهما كانت خبرتنا بالعمليات الذهنية فإننا لا نستطيع التفكير أكثر من دقيقتين أو ثلاث في اليوم؛ إلا إذا روضنا أنفسنا، بسبب من حرفة أو هواية، وطيلة ساعات، على تعنيف الكلمات كي نستخرج منها أفكاراً.
المثقف يمثل العاهة الأساسية، الفشل الذريع للهومو سابيانس

*

كلما كان عقل في خطر، أحس أكثر بالحاجة إلى أن يبدو سطحياً، أن يتخذ له مظهر الخفة، أن يضاعف سوء الفهم فيما يخصه

*

من المؤسف أنه ينبغي المرور بالإيمان في طريقنا إلى الله

*

دحض الانتحار: أليس من عدم اللياقة مغادرة عالم وضع نفسه بهذا الحماس في خدمة أحزاننا؟

*

لا ينتحر إلا المتفائلون، المتفائلون الذين لم يعودوا قادرين على الاستمرار في التفاؤل، أما الآخرون، فلماذا يكون لهم مبرر للموت، وهم لا يملكون مبرراً للحياة؟

*

أصحاب العقول الغاضبة؟ هم أولئك الذين ينتقمون في أفكارهم من الفرح الذي جادوا به في التعامل مع الآخرين

*

هل من قبيل الصدفة أن كل الذين فتحوا لي آفاقاً على الموت كانوا من حثالة المجتمع؟

*

لا نعرف حجم قوتنا الخاصة إلا متى تعرضنا إلى الإهانة. أما إذا أردنا أن نواسي أنفسنا على العار الذي لم يلحق بنا، فعليه أن نلحقه بأنفسنا، أن نبصق على المرآة في انتظار أن يشرفنا الجمهور ببصاقه. فلينجّنا الله من مصير محترم

*

في ذروة تقززنا، يبدو كأن فأراً قد تسلل إلى دماغنا ليحلم

July 25, 2011

الفراخ اللي هو الججاج.. ألذ ألذ


كانت (كامب شيزار) محور حياتي الأيام الماضية

وأنا أتمشى مع صديقي بعد منتصف الليل، نبحث عما يسد جوعنا، وجدنا (الصفواني)، طلبنا الدجاج المشوي، يهاتف صديقي من يرتبط بها، بينما أنا أدخن سيجارتي وأتأمل رص رجل المطعم للدجاج النيء على الفحم.

يميل علي صديقي لأخذ الولاعة، لا أسمع إلا جملة (وحياة أمه؟)، يشعل سيجارته ثم يبتعد، أتساءل عن أي سياق يمكن أن يتحدث فيه المرء مع من يرتبط بها عن أم شخص  آخر، وكيف يمكن لأفعال البعض أن تتسبب في إقحام سيرة أمهاتهم في أحاديث الآخرين، هل تسببت أفعالي في ذكر أمي بسوء في معرض ألسنة الآخرين؟ أصابني هذا الخاطر بالتوتر، وأشعلت سيجارة أخرى.

أتأمل الفحم المشتعل، وجلد الفراخ يتحول تدريجياً إلى مزيج من الألوان الذهبية، النارية، والسوداء. فكرت فيما سيحدث لو وضعت يدي على الفحم المشتعل، في البدء ستحترق الطبقة الخارجية للجلد، يتصاعد دخان كثيف بينما النار تنضج لحمي ببطء، ستسيل قطرات من دهني على الفحم مما يسبب في تزايد تكثيف بخار الماء، وصوت التششش الذي سيتردد على الشواية، لابد أن المقابض السوداء ستكبل يدي جيداً عن الحركة وبالتالي السقوط في جذوات الفحم المشتعلة واحتراقها بالكامل، عندما تنضج يدي هل سيبدو هذا منظراً شهياً للبعض، كما تبدو الفراخ لنا؟ أصابني هذا الخاطر بتقلص في معدتي، وأشعلت سيجارة أخرى

تذكرت بعض قبائل (البوتساي) من السكان الأصليين لأستراليا، عندما يموت الجنين هناك خلال الولادة، فإن الأم تأكل جنينها اعتقاداً منها بأنها تستعيد قوتها التي فقدتها خلال فترة الحمل، ظل هذا النشاط حتى أواسط القرن التاسع عشر تقريباً إلى أن جرمته السلطات. ما لم يوضحه أحد، هل كانت الأمهات يأكلن أجنتهن نيئاً، أم أنهن يشوين جثثهم على النار أولاً؟ هل يكتفين بأكلهم كطقس ديني أم أنهن يشتهين طعم الأجنة بالفعل؟ كيف سيبدو منظر الجنين على الفحم المشتعل؟ هل سيبدو شهياً لهن بألوانه الذهبية والنارية والسوداء، أم أن جلود الأجنة عند احتراقها ستفرز لوناً آخر جديداً؟ فجأة كرهت أمي والفراخ وصديقي وكامب شيزار، وأشعلت سيجارة أخرى.

انتهى الرجل من إعداد الدجاج، لف الطعام في كيس، ونقدته الثمن، أنهى صديقي مكالمته، وتأهبنا للعودة إلى المقهى حيث ينتظرنا أصدقاؤنا. لمحتُ عامل نظافة فانعطفت ناحيته، منحته نصيبي من الدجاج المشوي وأنا أبتسم له بود مفاجيء: بالهنا والشفا.

July 19, 2011

ع القراصية


،اليوم أصبت بالفزع

اكتشفت أنني أعرف الكثير من البشر مؤخراً، ثمانية وستون اسماً أضيفوا على هاتفي المحمول، قابلتهم كلهم خلال الشهرين الماضيين. لا تزال في أذني نصيحة طبيبي النفسي بأن أتواصل مع المزيد من الناس، أخبرني أنني لا أكره الناس كما كنت أعتقد؛ لكنني أخاف منهم. كان الحل ألا أرى من البشر أسوأ ما فيهم، أن أتواصل مع الجانب الممتليء منهم، لكن لا أزال أتخيلهم كجحافل النمل تسترق أفكاري، يقتحمونني، يبنون أعشاشهم داخلي، وفي انتظار الملكة أن تضع بيوضها الجميلة التي ستفقس المزيد والمزيد من النمل

كفاية، لقد ارتكبت الأيام الماضية من المحرمات ما يكفيني أسابيع طوال كي أهضمه، وجوه كثيرة، أحلام كثيرة، تشوهات على تجاعيد الروح لا تظهر إلا بشكل بسمة ساخرة أو اصطباحة مؤرقة أو مكالمة قلقة أو ألم لا تخفيه العيون. المشكلة انني أكترث، أهتم أكثر من اللازم بما يعانيه الناس، أين حاجز معاناتي أنا؟ أين حدودي؟ أين أشيائي؟ أين أشيائي؟


أصبحت ودوداً فجأة مع أناس لم أعرفهم إلا من أسابيع قليلة، رغم أن هذا الشكل من التواصل قد يحتاج مني إلى سنة من المعرفة على الأقل وسنة أخرى من الصداقة. لم أعد بداخل قوقعتي المنيعة التي تضم مجموعة ضيقة من البشر الذين أهتم بهم، بل صارت حياتي مبولة عامة لكل من يلبي نداء الطبيعة، والأسوأ أنه لا يهتم بالشطف من ورائه، مما عبق حياتي برائحة خرائية لم يعد السكوت عنها مقبولاً

أحتاج إلى فسحة من الوقت لأهضم كل شيء، كل الندوات والقعدات والمهرجانات والوجوه التي قابلتها، صرت لطيفاً وابن ناس، أجاهد لإخراس الصوت العدائي بداخلي، أجتهد كي يقبلني الآخرون في أوساطهم، صرت أرتاح في خلع نظارتي لكيلا أرى الوجوه، كي اكتسب القدرة على النظر في أعين الناس دون أن أشعر بالرهبة وأنتكس، صرت أشرب القهوة السادة كاحتجاج ضمني على الانتهاكات التي تمارس علي، لم يعد هذا أسلوباً علاجياً مقبولاً بالمرة يا طبيبي العزيز

كنا في أحلى الفنادق، جرجرونا ع الخنادق، وشكلنا ليس بلائق. قبل ما جيت يا عفريت، كنا نغني ع القراصية، ع القراصية، ع القراصية، ع القراصية

أخبرت صديقي بالأمس، سنذهب إلى الإسكندرية، سنشتري سيجارين هافانيين ، ونجلس على كافتيريا على البحر في كامب شيزار، وأمامنا فنجانين من القهوة الزيادة بالحليب، ستكون الساعة قد تجاوزت منتصف الليل، ولن نفعل شيئاً على الإطلاق سوى تدخين السيجار وشرب القهوة وتأمل البحر، سنظل تمثالين جامدين حتى طلوع الفجر، سنستغل صندوق اللاشيء في أدمغتنا الذكورية ولن نفكر في أي شيء سوى اللاشيء

أحتاج إلى هذه الفسحة من حياتي، أحتاج إلى هذه الإجازة، عذراً لكم، فالحمام سيكون مغلقاً حتى الاثنين القادم من أجل الصيانة الدورية

ملاحظة: نفسي أتفرج على لا تراجع ولا استسلام، للأسف لا توجد عندي نسخة من الفيلم

July 17, 2011

قهر الرجال



يجهش صديقك بالبكاء، وأنت عاجز عن فعل أي شيء، يسند رأسه على كتفك وتحتويه بيدك؛ ملمسه هش خاوٍ بينما تلونت عيناه بلمعان بارد منطفيء، وأنت عاجز عن فعل أي شيء، كل الكلمات تبخرت من رأسك، تخرس بينما تستندان إلى الحواجز الصخرية قبالة ميدان عبد المنعم رياض، يبدو التمثال جاثماً على الفضاء بينما تكفلت ضوضاء السيارات بمنح المشهد طابعاً مشوشاً كابوسياً، الوقت تجاوز منتصف الليل وأنت عاجز عن فعل أي شيء، يحاول صديقك الوقوف لكن ساقاه تخذلاه فيقع أرضاً، تهرع لمساندته فتجده يضحك، عيناه تتلونان بنظرات الموتى بينما يبتسم كرباً: ولا يهمك يا بني، بكرة حبقى زي الفل، أنا عايز أروح بس، تساعده للوصول إلى سيارة أجرة بينما ضحكته المؤلمة التي تزيد آلامك تحاصر شفتيه، تعجز حتى عن منحه الابتسامة وتكتفي بمقاومة دموعك أمامه، لماذا أحب صديقك من لا تحبه، لماذا كان هذا قدره؟


تتذكر هانسل وجريتل اللذين دخلا متاهة الغابة مسلحين بفتات الخبز كي يعلّما طريق عودتهما، لكن الطيور تتكالب على الفتات، تأكله، تضيع معالم العودة،  سيظلان في الغابة إلى الأبد حيث لا أمل أن ينقذهما أحد، لماذا لم تريا الطيور أيها الحمقاوين؟ تصل إلى البيت وأنت عاجز عن إيلاج المفتاح في قفل الباب، تخلع ثيابك وأنت عاجز عن ارتداء ملابس النوم،  تنفث سجائرك وأنت عاجز عن إيصال الدخان   المسمم إلى رئتيك، تقرأ وأنت عاجز عن فهم ما يدور حولك، تغمض عينيك وأنت عاجز عن النوم، تتمنى الموت وأنت عاجز عن أن يدركك

July 16, 2011

عشرة أسباب يدفعني أحدها لحبك


عندما أتعرف على الآخرين فإنني أبحث فيهم عن عشرة أشياء؛ يكفي أن تتوفر أحدها فحسب كي نصير أصدقاء، إن كنت تحمل أكثر من خمسة أشياء فأنت صديقي الأنتيخ من الآن حتى لو لم أعرفك قبلاً، وأنتِ فتاة أحلامي التي لم أرها إلا في خيالي، بالطبع يستحيل أن تتوفر الأشياء العشرة في أي أحد آخر، لأنها لا تجتمع إلا في أعظم شخص في العالم، وهو - كحقيقة علمية مثبتة- كما تعلمون (حسام دياب)، أو كما أحب أن أطلق عليه: أنا

والآن مع الأسباب العشرة، أن تكون:

1- من مواليد برج الدلو: الطباع الدلوية هي الطباع الأفضل على الإطلاق، كل من ينتمي لهذا البرج لابد أن يكون حالماً خيالياً مبدعاً رومانسياً، لابد من أن يحمل داخله شرارة الفنان حتى لو لم يكتشفها بعد، ولم يحدث إلى الآن أن تعاملت مع الدلويين إلا وارتحت لهم، بالمناسبة فأنا مثال صارخ لكل ما هو دلويّ سواء بالسلب أو بالإيجاب، أي قصاصة تتضمن صفات للبرج لابد أن يضعوا صورتي بجوارها لأنني تجسيد صارخ لكل متناقضات هذا البرج العظيم

2- من مواليد يناير: يناير النار، يناير النوار، يناير لسعة البرد وانتهاء الامتحانات وبدء الإجازة، يناير معرض الكتاب واللف ليل نهار ومقابلة كل من تراهم من العام إلى العام، يناير الحزن والسحلب والخوف والرجاء، يناير الثورة، كل الأحداث الجللة والمهمة في حياتي حدثت في شهري ديسمبر ويناير. الشهر بالنسبة لي كان يمثل استراحة المحارب لارتباطه بعطلة منتصف العام. يناير بالنسبة لي بهجة لأنني من مواليد هذا الشهر، أبي من مواليد هذا الشهر، أمي من مواليد هذا الشهر، خالتي الكبرى من مواليد الشهر، خالتي الصغرى من مواليد الشهر، اثنين من أعمامي من مواليد الشهر، بالإضافة إلى ثلة لطيفة من أبناء العمومة والخؤولة من مواليد هذا الشهر، يصبح شهراً مجملاً لكل احتفالات أعياد الميلاد في أسرتنا.

بالمناسبة فإن كل ينايرجي لابد أن يحمل من طباع الدلويين، كل الينايرجية حالمين وأولاد ناس، أما لو كان ينايرجي ودلوي في نفس الوقت فقد جمع الحسنيين، وله العتبى حتى يرضى

3- من مواليد العام 1987: هذا العام هو الأعظم في تاريخ الإنسانية منذ ابتكار التقويم الشمسي، ثم متواليات الأرقام التي توحي بالنهاية: سبعة فتمانية فتسعة، عام مجيد بلا شك. المشكلة أن مواليد هذا العام كثيرون جداً، في الولايات المتحدة وحدها ولد ثلاثة ملايين وثمانمائة وتسعين ألف طفل في هذه السنة، لو تخيلنا دول العالم كلها، معنى ذلك أنني مضطر لأن أحب أكثر من ستين مليون شخص ولدوا في هذا العام، لذلك لا أستطيع الاعتماد على هذا السبب كثيراً، لكنه مؤشر قوي لعلاقتي بالآخرين، فأي شخص تشرف بالانتساب ولادةً لهذا العام، سيحظى بفرصة كاملة مني للتعرف عليه أكثر

4- مولوداً لأب وأم لهما جنسيتين مختلفتين: كأن يكون الأب مصرياً والأم إيفوارية مثلاً. لا شك أن اختلاف الجنسيات يؤثر على تنوع ثقافة الطفل بما لا يقاس، تجعله أكثر تقبلاً للاختلافات من حوله، تجعله أكثر رغبة في الاستكشاف والسفر، يشعر بأن له عزوة في بلدان مختلفة، ولعل نقطة القوة الوحيدة التي لعبت دوراً صالحاً في تنشئتي دون أن يكون لي تدخل فيها هي اختلاف الجنسيات بين أبي وأمي، ولهذا فإن أي من مر بنفس ظروفي أشعر بانجذاب شديد ناحة تجربته، كيف مر بها واستفاد بها.

5- من مواليد مدينة أبوظبي: أعظم مدينة في العالم بلا منافس، الأهدأ والأكثر جمالاً على الإطلاق، المدينة التي لعبت فيها الكورة أول مرة، المدينة التي تشاجرت فيها أول مرة، المدينة التي حفرت فيها اسمي على الشجرة لأول مرة - لا يزال النقش موجوداً إلى الآن بالمناسبة- المدينة التي أحببت فيها أول مرة، المدينة التي جرح فيها قلبي أول مرة. ما يزال يخفق قلبي بنفس الحماس كما عبرت أمام سينما الماريا حيث كانت شلتنا تلعب البولينج أسبوعياً، ولا يزال المقعد الذي كنت أدون خواطري عليه أمام كاسر الأمواج، لا تزال الخالدية كئيبة، لا تزال منطقة النادي السياحي مبهجة، ما يزال مذاق شاورما مروش وسميراميس وفلافل زهرة لبنان في فمي حتى الآن

أبوظبي من المدن القلائل التي تشعر بحيويتها، لا تكاد تشعر بأنها مدينة صناعية/ تجارية/ خدمية، مجرد ضاحية هادئة أقرب منها لكونها عاصمة دولة، لكن عندما زرتها آخر مرة أصبت بغم شديد، ازدحمت المدينة الجميلة، تركوا ندوبهم على أرضها، أبراج عملاقة قبيحة وسيارات مكدسة لا تجد متسعاً للركن، لم يعد هناك وجود للمدينة القديمة إلا في ذاكرتي التي لا تخلو من عيب النسيان

6- مستخدماً يدك اليسرى بشكل دائم: دائماً ما كنت أستغرب كلمة أعسر، أجد (أيسر) أكثر منطقية لأنها مشتقة من اليسار، عدد الأيسريين لا يتجاوز من 10 إلى 15 بالمئة من سكان العالم. تروى عن الأيسريين أساطير كثيرة، وإن كانت دراسات علمية جادة أثبتت أن الأيسريين أكثر قدرة على التنظيم والإبداع من غيرهم، بالنسبة لي تعد الكتابة بيدي اليسرى علامة مميزة، لو حدث فيما بعد أن تجسد كائن فضائي في هيئتي ستكشفونه في النهاية لأنه يكتب بيده اليمنى بينما حسام لا يستخدم إلا يسراه.

7- من مشجعي الزمالك: لا مناص من الاعتراف بأن عائلتي كلها أهلاوية وأنني المنشق الزملكاوي الوحيد. أعتقد أن حبي للزمالك راجع إلى القضية نفسها: الفريق الثاني الذي يسعى طوال الوقت لأن يحرز هدفه. لا متعة أن أشجع بطلاً يحافظ على قمته بل إن المتعة في تشجيع فريق يسعى للوصول إلى هذه القمة. لمن شاهد فيلم (كول راننج) مثلاً، سيتعاطف مع الفريق الجامايكي في دورة الألعاب الأولمبية الشتوية مونتريال 1987، الفريق المستضعف له جاذبيته دوماً.

8- من محبي عمرو دياب: وهو الهوس الجنوني إلى درجة أن تجد ما يعبر عن أي حالة من حالاتك في أغنية من أغانيه. أنا عمراوي بالوراثة وبحكم النشأة، لكن عمرو ترك بصمته معي أيضاً: ألبوم أكتر واحد بيحبك كان أول ألبوم أشتريه من مصروفي، أما عند صدور ألبوم علم قلبي فقد بدأت قصة حبي الأسطورية التي ستعلّم على قلبي لمدة أربع سنين متواصلة. في صيف 2004 تضمن ألبوم (ليلي نهاري) الأغنية التي لا يمكن أن أنام دون الاستماع إليها (وحشتيني)، خاصة بعد أن قام الموهوب مروان أنور بعمل كوفر عظيم لها مستخدماً الكمان والبيانو، أما ديسمبر 2005 فينزل ألبوم (كمل كلامك) الذي لم أبدأ في الإعجاب بأغانيه إلا مؤخراً. في صيف 2007 نزل ألبوم الليلادي بينما قصة الحب الأسطورية الثانية بدأت بالنهوض، وصيف 2009 شهد ألبوم (وياه) تغيراً عميقاً في عاداتي الاستماعية، إذ رفضت الاستماع إليه فور نزوله، وصممت على السفر إلى الإسكندرية كي أسمعه للمرة الأولى مع يوسف محيي الدين، وهو الألبوم الذي اتفقنا جميعاً أنه لم يحوِ غلطة واحدة، وإلى الآن كلما اشتغلت أغنية عيني وأنا شايفه أتذكر طريقة رقصنا المضحكة على أنغام الأغنية البهيجة ذات الكلمات السطحية.

محتاج تدوينة تانية عشان علاقتي مع عمرو، المهم إن الراجل ده برنس البرانيس بالنسبالي :)

9- من عشاق روايات مصرية للجيب: ومش قصدي إنك تكون عديت عليها في مرحلة تسالي الصيف، بل هي عمود رئيسي في حياتك الفكرية، مينفعش مثلاً متعرفش تخصص ماجي ماكيلوب كان إيه، أو سيرجي كوربوف قابل أدهم صبري كام مرة قبل كده، أو لا تتفق إن أسطورتي آخر الليل والجاثوم من العلامات الفارقة في أدب الرعب العربي، أقسم بالله أن واحدة من أسعد لحظات حياتي إلى الآن، لما باروح أجيب الأعداد الجديدة، طبعاً مش بنفس بهجة زمان وأنا عمري سبع سنين، لكن برضه نوستالجيا، واللحظة الأجمل لما أشم ريحة الورق وأنا بفتح الكتاب لأول مرة، طبعاً الروايات ستقودني إلى المنتدى، وهو يعتبر تقريباً حجر أساس لكل علاقاتي بأصدقائي داخل مصر، يعني الروايات دي كان لها التأثير الاجتماعي على حياتي إلى الآن

10- ممن يعتبرون أن الشيتوس أعظم اختراع توصلت له البشرية بعد الطباعة: كل قرار مهم أخذته في حياتي كان لابد للشيتوس أن يكون منطلقاً له. المشكلة أن الشيتوس الأصلي اختفى فالآن إما ميني شيتوس أو شيتوس كرانشي أو شيتوس بالشطة أو بالنكهات السخيفة الأخرى. عندما رأيت حبيبتي الأولى كانت سارحة في الملكوت وفي حضنها كيس شيتوس حجم عائلي لا يتناسب مع ضآلتها، ومع ذلك استطاعت التهام الكيس بأكمله، وإلى الآن فإن أكثر منظر جذاب يمكن أن تقع عليه عيناي هو منظر فتاة ملتهمة للشيتوس، منذ عدة سنوات على كورنيش اسكندرية رأيت ما جعلني أخر على الأرض صعقاً: فتاة رقيقة يعابث الهواء شعرها بينما تستمع إلى الإم بي ثري وتلتهم الشيتوس، كان هذا أرق مشهد يمكن تتخبط به دمائك داخل أوعيتك الدموية، حاولت أن أذهب لأكلمها بينما يسحلني أصدقائي على رصيف الكورنيش مبتعدين بي، ظللت يومها عليل الهوى معتل الأنفس، الأنثى والشيتوس اتحاد لجاذبية مطلقة لا يمكن سوى أن أنحني لها سجداً

********
كما اتفقنا، يكفي أن يتوفر سبب واحد فيك كي أحبك، أما لو لم تجد شيئاً، فعذراً يا صاحبي لا يمكننا أن نتفق، لأنني لا أتحدث إلا في موضوع من الموضوعات العشرة السابقة، وبالتالي لن نجد شيئاً نتحدث عنه.