August 25, 2011

ثم قـسـت قلوبـكـم



منذ عدة سنوات، كنت في كافتيريا محطة رمسيس، أرتشف قهوتي وأرتقب وصول قطار لم أعلم آنذاك أنه سيتأخر علي لمدة ساعتين وثلاث وعشرين دقيقة. لفت نظري كائن نصفه الأسفل مبتور تماماً، يعتمد على يديه في تحريك زلاجة تحمل بقايا جسده، وعلى صوت الهمهمات التي يصدرها وعينيه الزائغتين وشعره المتساقط وثيابه الرثة التي تكشف عريه، كان يصعب عليّ تخيل أن يطلق على هذا الكائن لقب إنسان، أو أن ينتمي إلى نفس الرتبة الإحيائية التي ننتمي لها.


كانت هناك مجموعة من الأطفال التي رغبت في التسلي على هذا الكائن، بدأوا بركله على مؤخرته، كان يجاهد لتحريك زحافته التي يجرها بيديه نحوهم، بينما يطلق صيحات تكشف خرسه أو جنونه، أخذ الأطفال يهربون منه، قبل أن يندفع فتى من ورائه ويعقد حبلاً غليظاً حول عنقه، ويجذبه ناحيته ليقع الكائن على ظهره بعيداً عن زحافته، ثم بدأت حفلة جماعية من الأطفال تضمنت الركل والضرب، كان حظ أولئك الصغار وجود قطار على الرصيف مما شغل بال الناس عن رفاهية البحث عن حس أخلاقي يوقف هذه المأساة، ولما انتبه أحد العاملين بالمحطة زجر الأطفال عن فعلتهم، وأسند الكائن إلى الجدار الذي ظل لفترة يصرخ ويشوح بذراعيه، قبل أن يستغرق في غطيط عميق وطبقة من الزبد الأبيض تتشكل على جانبي شفتيه، منحته منظراً طفولياً بشكل غريب.


لا يزال هذا الموقف في ذهني، لأنه من أكثر المواقف التي تدنيت فيها عن إنسانيتي. كنت فاقداً الرغبة في مساعدة الرجل العاجز، راقبت الموقف من أوله لكنني تجاهلتُ مساعدته، لأنني لم أهتم بمعاناة الرجل، بل ربما أكون قد استمتعت وأنا أدخن سيجارتي وأرقب هذا المشهد الذي بدا لي وقتها هزلياً كفقرة سيرك مضحكة.


كلما مرت بي آية : " ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِّن بعد ذلك فهيَ كالحجارةِ أو أشدّ قسوةً " أصابتني القشعريرة واستشعرتُ أبرز مخاوفي تجاه نفسي؛ قسوة القلب أو تعفنه.


في البدء تكون اللامبالاة، هناك لحظة ما أقرر فيها التوقف عن الاهتمام بالآخرين، أو عن تخيل نفسي مكانهم، أو البحث عن حلول منطقية لعشوائيات حيواتهم المعقدة. مع استمرار اللامبالاة تسقط أقنعة الادعاء والتصنع والرياء، يبدأ النفور في لعب دور حاسم في عزلتك عن كل من تعرفهم، قد يصل بك الأمر إلى أن يكون مجرد نظرك إلى وجوههم متعباً لك، تكره الوجوه وتمل الضجيج وتمقت الزحام، تُسقط الذكريات من وعائك، وتبدأ في تكوين قشرة صلبة تعزلك عن محيط التأثير الخارجي.


لن يبدأ تعفن القلب إلا من اعتقادك الساذج بأن آلامك هي الأقوى بين آلام الناس، وأن لا أحد يشعر بألمك إلاك، وأن الأسلم لكيلا تتألم ثانية أن تتوقف عن التعاطي مع البشر، لن يبدأ التعفن إلا من الكراهية: كراهيتك لنفسك ولألمك ولمن سبّب لك الألم، وتدريجياً ستفقد قدرتك على التواصل مع الجانب الإنساني، وستبدو نظرة خاوية على عينيك يلاحظها كل من يعرفك، ويخبرك بمدى قلقه عليك، بينما تهز رأسك وتزداد اغتراباً.


هذه الأيام بدأت نفس الأعراض تعود تقريباً، كان لزاماً عليّ لتجنب الألم ألا أبالي، لم أستطع المحافظة على رفاهية الحس الإنساني والتعامل مع جرح مفتوح ينز دماً كلما لمسه أحد، أحاول تصنع الاهتمام، أحاول التغلب على النفور بالانخراط في رؤية الآخرين والاستماع إليهم، أحاول أن أسكت صوت اللامبالاة داخلي، لكنني أعلم جيداً أنني قد أضطر إلى هذا الميكانيزم الدفاعي، لأنني مللتُ الألم، ومللتُ الاهتمام، ومللتُ الصد والممانعة والنكران والهجران وسوء المنقلب وزوال المشاعر، مللتُ لعبة التخمين، مللتُ البحث عن ردود أفعال ترضي من أمامي لا ترضيني، مللتُ من ترقب إشارات تطمئنني تعقبها أفعال/ كلمات تقتلني، ثم أبتسم كأن شيئاً لم يكن وأكمل حديثي العابر الزائل.


اللامبالاة أفضل بكثير، اللامبالاة ليست لعبة البحث عن الاحتمالات بل تجاهلها تماماً، في اللامبالاة أنت تنجح في تمثيل دور المهتم دون أن تكون مهتماً في الحقيقة، وبالتالي فعندما لا يلقى اهتمامك اهتماماً لن تشعر سوى بفشل دورك التمثيلي، لن تفكر في مشاعرك لأنك لن تنتظر من أحد أن يربت عليها، لن تبحث عن سعادة بدأت تدرك جيداً أنك لن تنالها، أو ربما ستنالها لكن لامبالاتك ستفقدك طعمها. اللامبالاة ملح يفقد كل الأشياء طعمها، لن تشعر بنجاح أو خسارة أو فشل أو ألم أو نشوة أو لذة أو خوف أو مرض، فقط عليك ألا تقترب من النفور والتعفن لكيلا تخسر كل شيء، وأن تنتظر الآذان لتشعل سيجارتك، وترخي جسدك وتنظر إلى السقف متأملاً اللاشيء، راغباً في اللاشيء، عاجزاً عن اللاشيء، متماهياً مع اللاشيء، فأنت أصلاً ولامبالاتك: لا شيء.

1 comment:

  1. العجيب أني أقرأ هذي الأيام وسط غمرة العمل عن الرضا، وإن كان الصبر زاد المضطرين فالرضا مرتبة العارفين.

    ومن معاني الرضا أو مما يقود إليه ويترتب عليه : اللامبالاة
    لكنها لا مبالاة رحيمة، ﻷن فيها استنادًا للخالق، وأنك في جواره، لا تبالي بما تصبح أو تمسي.

    وكما يقال إن التقلب بين الفرح الشديد والغم الشديد نوع من العذاب لا تحتمله الحياة، أو أننا أكثر هشاشة أمام كل هذا.

    وطريق اللامبالاة يبدأ بالصبر (الذي أحاول جاهدة أن أفهم ماهو)..والصبر بالتصبر ..ثم يأتي السكون والتقبل ﻷي شيء..ثم الرضا، الذي لو مسننا منه شيء لربما كفانا عاقبة التقلب الشديد بين البهجة والغم.

    وسلام لقلبك. وحياة.

    ReplyDelete